عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٤

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٩

أستاذه : له عنده مكانة. وفي الحديث : «أقرّوا الطّير في مكناتها» (١) قال أبو عبيد : الواحدة مكنة. قال : فاستعير ذلك للطير كما استعيرت المشافر للحبش ، وإنّما هي في الأصل للإبل. وقال شمر : الصحيح فيها أنها جمع المكنة بمعنى التمكّن ؛ يقولون : إنه لذو مكنة من السلطان أي تمكّن ، فالمعنى أقرّوها على كلّ مكنة ترونها عليكم ، ودعوا التطيّر بها ، قال : وهكذا ، كالتّبعة من التّتبع والطّلبة من التّطلّب. وقال غيرهما : معناه على أمكنتها. قال : معناه الطير الذي يزجر به ، وذلك أنّ الرجل إذا أراد سفرا أو غيره زجر ما يراه من الطير ، فإن أخذ ذات اليمين تفاءل به ومضى لأمره ، ويسمى هذا الطير السانح ، وإن أخذ ذات الشمال أمسك عن أمره ، ويسمّى هذا الطير البارح ، وهذا دخول في علم الغيب فنهي عنه ، وإليه نحا من قال (٢) : [من الطويل]

لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى

ولا زاجرت الطير ما الله صانع

ويقال : مكنت الضّبّة وأمكنت ، أي باضت المكن. واختلف أهل التصريف في المكان ، فعندهم أنّ ميمه أصلية على ما قدّمناه ، وزعم الخليل وأتباعه أنّه من الكون ، مفعل منه ، قال : ولكثرته في الكلام أجري مجرى فعال ، فقيل : تمكّن نحو تمسكن وتمنزل ، يعني أنه اعترض على نفسه بقولهم : تمكّن فثبتت الميم في التّصريف ، فدلّ على أصالتها. فأجاب بأنّه جرى مجرى ما ميمه أصلية ونظيره متمسكن ومتمنزل من السكون والنزل ، وقد أتقنّا ذلك في غير هذا.

م ك و :

قوله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً)(٣). المكاء : صفير الطير. يقال : مكا الطير يمكو مكاء ومكوّا : صفّر. والمعنى أنه لم يكن لهم صلاة عند البيت إلا هذا ، أي جعلوا هذي بدل الصلاة ، كقول الآخر : [من الوافر]

تحية بينهم ضرب وجيع

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٣٥٠ ، وفي الأصل : «.. مكانها».

(٢) البيت للبيد كما في الديوان : ١٧٢ ، وفيه : الضوارب بالحصى. ورواية اللسان كالأصل.

(٣) ٣٥ / الأنفال : ٨.

١٢١

أي بدل التحية ، ومثله قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(١) وذلك أنهم كانوا يأتون البيت والقرآن يتلى فيصفرون بأيديهم ويلغون كما أخبر عنهم بقوله : (وَالْغَوْا فِيهِ)(٢) يقصدون بذلك الغلبة ، وقد غلبوا وانقلبوا صاغرين. وقد نبّه بقوله : (إِلَّا مُكاءً) أنّ ذلك منهم جار مجرى مكاء الطير في قلّة الغناء.

والمكّاء : طائر. والمكّ : طائر معروف.

فصل الميم واللام

م ل أ :

قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ)(٣) الملأ : الأشراف ، سموا بذلك لأنّهم يملؤون القلوب هيبة والعيون جلالة. وهو اسم جمع كالبقر ، وجمع على أملاء ، نحو أبناء ، وقيل : سمي الرؤساء بذلك لأنّهم ملأى بالرأي والعناء. والملأ جمع مليء ، وقيل : الملأ : القوم يجتمعون على رأي فيملؤون القلوب هيبة. ثم أطلق على كلّ جماعة لأنّهم كانوا يتمالؤون على ما يريدون ، أي يتعاونون. وقد مالأته على كذا ، أي ظاهرته ووافقته عليه. قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : «لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به» (٤) وقال أيضا : «والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله» (٥) ولقد والله صدق. ويقال : مالأته ، أي صرت من ملئه وجمعه ، نحو شايعته أي صرت من شيعته.

والملاءة : الزّكام الذي يملأ الدّماغ. والملاءة ـ أيضا ـ الملحفة ، وأما الملاوة (٦) بالواو فالقطعة من الزمان غير ما نحن فيه. وحكى فلانا وأملى.

__________________

(١) ٨٢ / الواقعة : ٥٦.

(٢) ٢٦ / فصلت : ٤١.

(٣) ٦٦ / الأعراف : ٧ ، وغيرها.

(٤) النهاية : ٤ / ٣٥٣ ، وفيه أن الحديث لعمر لا لعلي. وفي روايته : «لأقدتهم» أي ساعدتهم. والصواب : لأخذت منهم القود (القصاص).

(٥) المصدر السابق والحديث لعلي كما ورد ، أي ولا ساعدت.

(٦) مثلثة الميم.

١٢٢

قوله : (مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً)(١) ملء الشيء : مقدار ما يملؤه. ومثله : لي ملؤه عسلا. ويقال : أعطني ملأه وثلاثة أملائه. وفي حديث أمّ زرع : «ملء كسائها وغيظ جارتها» (٢) أي أنها بدينة تملأ كساءها وتغيظ من يحسدها.

م ل ح :

قوله تعالى : (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ)(٣) الملح : الماء الذي تغيّر طعمه التغيّر المعروف وتجمّد. وقد يقال ذلك وإن لم يجمد ، ومنه : (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) ولا يقولون : ماء مالح إلا في لغة شاذة (٤).

وملّحت القدر : ألقيت فيها الملح. وأملحتها : أفسدتها بالملح. وسمك مليح : أي مملوح. ثم استعير من لفظ الملح الملاحة فقيل : رجل مليح ، وامرأة مليحة. قيل : والملاحة راجعة إلى معنى يغمض إدراكه.

وملحت (٥) الشاة : سمطتها ، ومنه حديث الحسن : «كالشاة المملوحة» (٦) وأنشد لأبي الطمحان (٧) : [من الطويل]

وإني لأرجو ملحها في بطونكم

وما بسطت من جلد أشعث أغبر

وقيل : الملح في البيت الحرمة والذّمام ، وقال المبرد : العرب تعظّم أمر الملح والنار والرماد ، وفي المثل : «ملحه في ركبته» (٨) فيه قولان ، أحدهما أنه مضيّع لحقّ

__________________

(١) ٩١ / آل عمران : ٣.

(٢) النهاية : ٤ / ٣٥٢.

(٣) ٥٣ / الفرقان : ٢٥.

(٤) بل يقولون : ماء ملح.

(٥) وملّحتها.

(٦) النهاية : ٤ / ٣٥٥.

(٧) قاله إذ كانت له إبل يسقي قوما من ألبانها ثم أغاروا عليها فأخذوها. والبيت مذكور في الشعر والشعراء : ٣٠٥ ، وفي اللسان ـ مادة ملح ، وفيه : ... أغبرا ، وهذا وهم لأن الراء في القصيدة مكسورة كما في الأغاني والكامل للمبرد.

(٨) يضرب لمن يغضب لأدنى سبب. وفي رواية مجمع الأمثال «.. على ركبته» (٢ / ٢٦٩).

١٢٣

الرضاع فأدنى شيء ينسيه الذّمام كما أنّ الذي على ركبته ملح يبدّده أدنى شيء. والثاني أنه يضرب للسيء الخلق كما أنّ الملح على الركبة يتبدّد من أدنى شيء.

والملح ـ أيضا ـ الرضاع ، ومنه قوله عليه الصلاة والسّلام : «ملحنا له» (١) أي أرضعنا ، ومنه الحديث : «لا تحرّم الملحة والملحتان» (٢) أي الرّضعة والرّضعتان. فأما الملجة ـ بالجيم ـ فهي المصّة. وفي الحديث : «بكبشين أملحين» (٣) قال ابن الأعرابيّ : هو النّقيّ البياض ، وقال الكسائيّ : هو الذي بياضه أكثر من سواده (٤). وفي الحديث : «لم يكن لحمزة إلا نمرة ملحاء» (٥) ؛ البرد ذات الخطوط : سواد وبياض.

وامرأة ملاحة ، أي مليحة. والملّاح ؛ ضرب من النبات ، ومنه الحديث : «يأكلون ملّاحها ويرعون سراحها» (٦). وأنشد لأبي النجم (٧) : [من الكامل]

فهبطت والشمس لم تترجّل

يخبطن ملّاحا كذاوي القرمل

والملاح : المخلاة ، ومنه : «جعل رأسه في ملاح وعلّقه» (٨).

م ل ق :

قوله تعالى : (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)(٩) أي فقر. أملق الرجل : افتقر ، وحقيقته أملق صار ذا إملاق. قال الليث : الإملاق : كثرة إنفاق المال ، وقال النضر : إنه لمملق أي مفسد. وأملق يكون لازما ومتعديا ، يقال : أملق زيد وأملقه الدّهر ، وأنشد لأوس (١٠) : [من الكامل]

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٣٥٤ ، في وفد هوازن.

(٢) النهاية : ٤ / ٣٥٤ ، وفيه رواية بالجيم. وهو ليس قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل قول رجل من وفد هوازن.

(٣) صحيح البخاري ، ٧.

(٤) ذكره الهروي.

(٥) مسند ابن حنبل ، ٥. وفي النهاية الحديث لخبّاب (٤ / ٣٥٤). وفي الأصل اضطراب قوّمناه.

(٦) النهاية : ٤ / ٣٥٥. السراح : نوع من الشجر.

(٧) العجز في اللسان ـ مادة ملح.

(٨) النهاية : ٤ / ٣٥٥.

(٩) ٣١ / الإسراء : ١٧.

(١٠) مذكور في اللسان ـ مادة ملق. وفي اللسان : وأملق.

١٢٤

لمّا رأيت العدم قيّد نائلي

وأملق ما عندي خطوب تنبل

وملق الجدي أمّه : رضعها.

م ل ك :

قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)(١) قرىء ملك ومالك في المتواتر ، ملك ـ بالسكون ـ ومليك بالإشباع (٢).

وملك : فعل ماض على حدّ قوله : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ)(٣)(أَتى أَمْرُ اللهِ)(٤) واشتقاق ذلك من الملك وهو القوة والشدّة ، ومنه ملكت العجين أي بالغت في عجنه ، يقال : ملكت العجين وأملكته. وفي حديث عمر رضي الله تعالى عنه : «أملكوا العجين» (٥) وعن الفراء : يقال للعجين إذا كان متماسكا متينا مملوك ومملّك ، يقال : ملك العجين وأملك وملك ملكا وإملاكا وتمليكا. وقد اختار كلّ فريق قراءة من القراءتين ؛ فقال أبو عمر : والملك أبلغ من المالك في المدح ، لأنّ الملك لا يكون إلا مالكا ، وقد يكون المالك غير ملك. قال غيره : هذه في صفة المخلوقين ، فأمّا في صفة الخالق فهما سواء ، وقال أبو العباس : الاختيار أن يكون مع اليوم مالك أي ذو ملك ، ومع الناس ملك أي ذو الملك والسّلطان. وقال غيره : الملك هو / المتصرف بالأمر والنهي في الجمهور ، وذلك يختصّ بسياسة الناطقين ، ولهذا يقال : ملك الناس ، ولا يقال ملك الأشياء. ورجّح بعضهم قراءة «ملك» بقوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)(٦) يقال : ملك بيّن الملك ـ بالضم ـ ومالك بيّن الملك ـ بالكسر. والملك ـ بالكسر ـ ضربان : ضرب هو التملّك والتّولّي. وملك هو القوة على ذلك ، تولّى أم لم يتولّ ، فمن الأول قوله تعالى : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً

__________________

(١) ٤ / الفاتحة : ١.

(٢) وانظر قراءات أخرى في المختصر : ٧ ؛ فقد قرأ ابن كثير ونافع وحمزة و.. «ملك». وعاصم والكسائي ويعقوب «مالك». وروى عبد الوارث عن أبي عمر «ملك» (وانظر اللسان ـ مادة ملك).

(٣) ٤٤ / الأعراف : ٧.

(٤) ١ / النحل : ١٦.

(٥) النهاية : ٤ / ٣٥٩.

(٦) ١٦ / غافر : ٤٠.

١٢٥

أَفْسَدُوها)(١). ومن الثاني قوله تعالى : (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً)(٢). فجعل النبوة مخصوصة والملك عاما فيهم ، وإنّ الملك ههنا هو القوة التي بها يترشّح للسياسة ، لا أنه جعلهم كلّهم متولّين للأمر ؛ فإنّ ذلك مناف للحكمة ، ولذلك قيل لا خير في كثرة الرؤساء. قال بعضهم : الملك اسم لكلّ من يملك السياسة إمّا في نفسه ، وذلك بالتمكين من زمام قواه وصرفها عن هواها ، وإمّا في نفسه وفي غيره ، سواء تولّى ذلك أم لم يتولّ ، على ما تقدّم.

والملك ضبط الشيء المتصرّف فيه بالحكم ، والملك كالجنس للملك ؛ فكلّ ملك ملك من غير عكس.

قوله : (مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٣) هو مبالغة في الملك. وهو مصدر ملك ، كالرّغبوت والرّهبوت والجبروت والطاغوت ، وذلك مختصّ بالله تعالى ، ومثل قوله : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٤).

والمملكة : سلطان الملك وبقاعه التي يحكم فيها. والمملوك ـ في المتعارف ـ يختصّ بالرقيق من بين سائر الأملاك ؛ قال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً)(٥). وقد يطلق على كلّ ما يملك. وأصل ذلك كلّه من الشّدّ والضّبط ، قال قيس (٦) : [من الطويل]

ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها

يرى قائما من دونها ما وراءها

والملكة : قوة في النفس والشّدّ. وملاك الأمر : ما يعتمد فيه عليه. والملكة : ـ أيضا ـ ملك العبيد ؛ يقال : فلان حسن الملكة ، أي حسن الصّنع إلى مماليكه ، ومملوك مقرّ بالملوكة والملكة والملك. والإملاك : التزويج ، لما فيه من قوة العقد.

__________________

(١) ٣٤ / النمل : ٢٧.

(٢) ٢٠ / المائدة : ٥.

(٣) ٧٥ / الأنعام : ٦.

(٤) ١٨٥ / الأعراف : ٧. والمقصود بالاختصاص بالله تعالى هو الملكوت ليس غير.

(٥) ٧٥ / النحل : ١٦.

(٦) لقيس بن الخطيم ، والبيت في اللسان ـ مادة ملك ، وفيه : قائم. وهو في ديوانه : ٤٦ ، وفيه : من خلفها. أنهرت : أجريت الدم.

١٢٦

وقوله : (ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا)(١) قرىء بالضم والكسر (٢). وقد ذكرت توجيه القراءات في قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وما ترجّح به كلّ قراءة في «الدرّ المصون» و «البحر الزاخر في التفسير» ، فأغنى عن إعادته هنا.

وقد أدخل بعضهم في هذه المادة لفظ ألك (٣). وقد اختلف الناس فيه على ستة أقوال ، أحدها : أنه مشتقّ من الملك (٤) ووزنه فعل لكنه شذّ جمعه على ملائكة. الثاني : أن أصله ملأك ، الهمزة فيه مزيدة كشمأل ، ثم خفف بنقل حركة الهمزة وحذفها ، وجمعه على أصل زيادته ، ويدلّ على ذلك النطق لهذا الأصل في قوله (٥). [من الطويل]

فلست لإنسيّ ولكن لملأك

تنزّل من جوّ السماء يصوب

الثالث : أنه مشتقّ من ألك أي أرسل ، يدلّ على ذلك قوله (٦) : [من المنسرح]

أبلغ أبا دختنوس مألكة

عن الذي قد يقال م الكذب

ثم قلبت العين إلى موضع الفاء وصار ملأكا ، ثم فعل به ما فعل بملاك من النّقل والحدث ، ووزنه معل. والرابع : أنه مشتقّ [من] لأك أي أرسل ؛ فالهمزة عين ، ثم فعل فيه ما تقدّم. الخامس : أنه مشتقّ من لاكه يلوكه (٧) أي أداره ، لأنّ الملك يدير الرسالة في فيه ، فأصله ملوك فنقلت حركة الواو إلى اللام ، فتحرّك حرف العلّة وانفتح ما قبله ، فقلبت الفاء وصار ملاكا ثم خفف بحذف الألف ، فوزنه أيضا مفل بحذف العين ، وأصل هذا ملاوكة

__________________

(١) ٨٧ / طه : ٢٠.

(٢) قال الفراء : برفع الميم قراءة القراء. ولو قرئت بملكنا وملكنا (بكسر الميم وفتحها) كان صوابا (معاني القرآن : ٢ / ١٨٩).

(٣) في الأصل : الملك ، ولا يقبله السياق.

(٤) وابن منظور يعكس الآية فيقول : «أنه مشتق من الملك».

(٥) اللسان ـ مادة ألك من غير عزو.

(٦) من شواهد شرح المفصل : ٨ / ٣٥ ، واللسان ـ مادة ألك ، وأبو دختنوس رجل يدعى لقيط بن زرارة ، ودختنوس ابنته ، سماها باسم ابنة كسرى.

(٧) لم يذكرها ابن منظور ، بل جعل مكانها ما في معناها فقال : «سميت ألوكا لأنه يؤلك في الفم ، .. أي يمضغ.

١٢٧

بالواو فقلبت همزة. السادس : أنه لا اشتقاق له عند العرب ، قاله النّضر بن شميل ، وقد أتقنّا هذه الأقوال وتصريفها في «الدرّ المصون» وغيره.

م ل ل :

قوله تعالى : (مِلَّةِ إِبْراهِيمَ)(١). الملّة ـ قيل ـ : معظم الدّين ، والشريعة : الحلال والحرام ، قاله ابن الأعرابيّ ، قال ابن الأعرابيّ : يعني بمعظم الدين ما جاء به الرسل ، وقال غيرهما : الملة : الدين ، وهو اسم لما شرع الله لعباده على لسان أنبيائه ليتوصّلوا إلى جوار الله. والفرق بينها وبين الدين أنّ الملة لا تضاف إلا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي تسند إليه ، نحو : (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ)(٢). ولا تكاد توجد مضافة إلى الله تعالى ولا إلى آحاد الأمة ، ولا تستعمل إلا في حملة الشرائع دون آحادها ، لا يقال : ملة الله ، ولا ملّتي ، ولا ملة زيد ، كما يقال : دين الله.

وأصل الملّة من أمللت الكتاب. والملّة ـ أيضا ـ : الدّية ، ومنه قول عمر رضي الله تعالى عنه : «ولكن نقوّمهم الملّؤة على آبائهم خمسا من الإبل» (٣). وأمّا الملّة فالرماد الحارّ ، وقيل : الجمر ، ولذلك يقال : أطعمنا خبز ملّة ، بالإضافة. وقلّ خبزه : طرحه في الملّة. ومن أطلق الملّة على الخبز نفسه فمتجوّز ، وقد خطّأه الناس. والمليل : ما طرح في الملّة.

وفي الحديث «إنّ الله لا يملّ حتى تملّوا» (٤). الملل : الضّجر من الشيء ؛ يقال : مللت منه ، قال الشاعر (٥) : [من الكامل]

حتى مللت وملّني عوّادي

والمعنى أنه لا يملّ أبدا مللتم أم لم تملّوا ، نحو : لا أفعل حتّى يبيضّ القار ويشيب

__________________

(١) ١٣٠ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٢) ١٢٣ / النحل : ١٦.

(٣) النهاية : ٤ / ٣٦١ ، وفي الأصل : «... نقيمهم ..».

(٤) النهاية : ٤ / ٣٦٠. والمعنى أن الله تعالى لا يمل أبدا ، مللتم أو لم تملوا.

(٥) من شواهد المغني : ٤٢٢ ، وصدره :

وأجبت قائل : كيف أنت بصالح؟

١٢٨

الغراب ويلج الجمل في سمّ الخياط. والثاني : لا يطّرحكم حتى تزهدوا في عمله ، فسمّى إطراحه لهم مللا على المقابلة ، كما تقدّم في (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) وعليه قول عديّ (١) : [من الرمل]

ثم أضحوا لعب الدهر بهم

وكذاك الدهر يودي بالرّجال

سمى إهلاكه لهم لعبا. وقيل : معناه : لا يقطع فضله عنكم. وهو قريب من الأول.

قوله تعالى : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ)(٢) أي ينطق بما عليه ؛ يقال : أمللت عليه ، وأمليت كقوله : (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً)(٣) فأبدل إحدى اللامين (٤) حرف علة. وأمللته : حملته على الملل من الشيء. والمليلة : حرارة يجدها الإنسان (٥).

م ل و :

قوله تعالى : (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ)(٦) أي نطيل لهم المدّة وندرّ عليهم الأرزاق استدراجا لهم ، والإملاء : الإمداد ، ومنه قيل للمدّة الطويلة ملاوة من الدّهر ، ومليّ من الدهر. قال تعالى : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)(٧) أي دهرا طويلا ، وتملّى بكذا : تمتّع به مدّة وملاوة من الزمان.

وتملّيت الثوب : تنعّمت به. وملاك (٨) الله : أبقاك الله متمتعا. والملا : المفازة الممتدّة. والملوان : الليل والنهار. قال بعضهم : حقيقة ذلك تكرّرهما وامتدادهما ، قال (٩)

__________________

(١) البيت مذكور في اللسان ـ مادة ملل من غير عزو. بينما نسبه الهروي إلى العدي وكذا في أمالي المرتضى : ١ / ٥٦ ، والأغاني : ٢ / ٩٥.

(٢) ٢٨٢ / البقرة : ٢.

(٣) ٥ / الفرقان : ٢٥.

(٤) وفي الأصل : أحد الأمرين ، ولعله كما ذكرنا. قال الفراء : أمللت لغة أهل الحجاز وبني أسد ، وأمليت لغة بني تميم وقيس ... ونزل القرآن العزيز باللغتين معا (اللسان).

(٥) وهي حمى في العظم ، وفي المثل : «ذهبت البليلة بالمليلة» ، والبليلة : الصحة (اللسان).

(٦) ١٧٨ / آل عمران : ٣.

(٧) ٤٦ / مريم : ١٩.

(٨) غير مهموز.

(٩) لعله يريد الراغب في المفردات : ٤٧٤.

١٢٩

بدليل أنّهما أضيفا إليهما في قول الشاعر (١) : [من الطويل]

نهار وليل دائم ملواهما

على كلّ حال المرء يختلفان

فلو كانا الليل والنهار لما أضيفا إليهما لئلا يلزم إضافة الشيء إلى نفسه.

قوله : (وَأُمْلِي لَهُمْ)(٢) أي أمهلهم وأطيل مدّتهم. قوله : (سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ)(٣) أي أمهل ، وقرىء أملى (٤) مبنيّا للفاعل على أن ضميره للشيطان بسبب غروره إياهم. قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها)(٥) أي أنسأت في أجلها وأمهلتها ، قال أبو بكر : اشتقاقه من الملوة وهي المدّة من الزمان ؛ ملوة (٦) وملاوة وملاوة. وفي المثل «تملّ حبيبا والبس جديدا» (٧).

فصل الميم والنون

م ن ع :

قوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ)(٨) أي ظنّوا أن الحصون تحجز بينهم وبين من يريدهم. والمنع ـ في الأصل ـ الحجز بين الشيئين ، وهو ـ أيضا ـ ضدّ العطية لأنّ الحاجز يحجز بين المعطي والعطيّة. ورجل مانع ورجال منعة نحو : كافر وكفرة. والمنّاع : البليغ في المنع (٩) ؛ قال تعالى : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ)(١٠). ومنعه : حماه مما يؤذيه ، ومنه :

__________________

(١) البيت في المفردات ، وفي اللسان ـ مادة ملا.

(٢) ١٨٣ / الأعراف : ٧.

(٣) ٢٥ / محمد : ٤٧.

(٤) يريد : «أملأ لهم» ، من قولهم : أمليت الكتاب أمليه إملاء. وانظر لها قراءات واجتهادات في معاني القرآن للفراء : ٣ / ٦٣.

(٥) ٤٨ / الحج : ٢٢.

(٦) لم يذكر ابن منظور هذه اللفظة وجعل مكانها : ملاوة ، ملا ، مليّ ... كله : مدة العيش.

(٧) المثل لم نجده في المظان ، وهو مذكور في اللسان ـ مادة ملا هكذا : «أبليت جديدا وتملّيت حبيبا».

(٨) ٢ / الحشر : ٥٩.

(٩) المانع والمنّاع : البخيل.

(١٠) ٢٥ / ق : ٥٠ ، وغيرها.

١٣٠

(مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ)(١). وقد منع : صار ذا منعة وهي القوة التي يحمى بها ، والمنعة ـ بالسكون ـ أيضا بمعنى المنعة. وفلان منيع. ومكان منيع ، أي حصين على من يرومه. وامرأة منيعة : كناية عن عفّتها.

قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ)(٢) قيل : ما حملك ، وقيل : ما صدّك وحملك على تركه؟ ومناع : اسم فعل لا منع ، كنزال لانزل. والمانع من صفاته تعالى بمعنى الذي يمنع العطاء من يشاء ، وقيل : الذي يحمي وينصر. وقوله عليه الصلاة والسّلام : «لا مانع لما أعطيت» (٣) من الأول. وقولهم : مانع أوليائه ، أي يحميهم وينصرهم ويحوطهم.

م ن ن :

قوله تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى)(٤) المنّ : ذكر الصّدقة والاستكثار عليه ، وهما متلازمان. ومن ملح الكلام : طعم الآلاء أحلى من المنّ ، وهي أمرّ من الآلاء عند المنّ ، وقال الشاعر : [من الطويل]

وإنّ امرأ أهدى إليّ صنيعة

وذكّرنيها مرّة لبخيل

وكانوا يقولون : إذا صنعتم معروفا فانسوه. والمنّة : النّعمة الثقيلة ، ويقال ذلك على وجهين ؛ أحدهما : أن يكون ذلك بالفعل ، فيقال : منّ فلان على فلان : إذا أثقله بالنّعمة الثقيلة ، وعلى ذلك قوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(٥) وذلك على الحقيقة لا يكون إلا لله تعالى. والثاني : أن يكون ذلك بالقول ، وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النّعمة ، ولذلك قيل : المنّة تهدم الصنيعة وتوجب القطيعة. ويحسن ذكرها عند الكفران ، ومن ثمّ قيل : «إذا كفرت النّعمة حسنت المنّة» (٦).

__________________

(١) ٢ / الحشر : ٥٩.

(٢) ١٢ / الأعراف : ٧.

(٣) صحيح البخاري ، الأذان ، ١٥٥ ، وفيه رواية : «... لما أعطى الله».

(٤) ٢٦٤ / البقرة : ٢.

(٥) ١٦٤ / آل عمران : ٣.

(٦) المفردات : ٤٧٤.

١٣١

قوله تعالى : (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)(١) أي غير مقطوع ؛ من منّه أي قطعه ، وقيل : غير معتدّ به ، كما قيل : (بِغَيْرِ حِسابٍ*). وقيل : غير منقوص ، ومنه : المنون للمنيّة لأنها تنقص العدد وتقصر المدد. وقيل : إنّ المنّة بالقول من هذا المعنى أيضا لأنها تقطع الثواب وتقتضي قطع الشكر. وحبل منين ، أي مقطوع. وقيل : (غَيْرُ مَمْنُونٍ)(٢) غير محسوب ، كقوله تعالى : (يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ)(٣). وقال الهرويّ : وقيل : لا يمنّ عليهم بالثواب الذي استوجبوه. وهذا يشبه قول المعتزلة ، ويجوز أن يكون ذلك بالنسبة إلى الوعد ؛ فإنّ الله تعالى لا يخلف وعده.

قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى)(٤) قيل : هو التّرنجبين ، وقيل : هو صمغة حلوة تنزل على الشّجر ، وقيل : هو شيء كالطّلّ فيه حلاوة يسقط على الشجر ، وقيل : المنّ والسّلوى إشارة إلى ما أنعم الله به عليهم ، وهما شيء واحد ؛ سمّاه منّا من حيث إنّه امتنّ به عليهم ، وسماه سلوى من حيث إنه كان لهم به التسلي (٥).

والمنّ : ما يوزن به ، وهو رطلان بغداديان ، ويجوز إبدال نونه الأخيرة حرف علّة فيقال : منا. وجمعه أمناء.

قوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ)(٦) المنّ : الإطلاق بلا فداء.

قوله : (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ)(٧) أي أنفق أو لا تنفق. وسمي الإنفاق منّا لأنه عطاء ، والعطاء سبب المنّ.

قوله : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)(٨) قيل : هو المنّة بالقول ، وذلك أن يمنن به ويستكثر.

__________________

(١) ٨ / فصلت : ٤١ ، وغيرها. والآية التالية : ٤٠ / غافر : ٤٠.

(٢) ٨ / فصلت : ٤١ ، وغيرها.

(٣) ٤٠ / غافر : ٤٠.

(٤) ٥٧ / البقرة : ٢.

(٥) وانظر كتابنا «معجم أعلام القرآن» حولهما.

(٦) ٤ / محمد : ٤٧.

(٧) ٣٩ / ص : ٣٨.

(٨) ٦ / المدثر : ٧٤.

١٣٢

وقيل : معناه لا تعط شيئا. وقال ابن عرفة : المعنى لا تمنن ما أوذيت به في جنب الله ولا تستكثر ، فإنه قليل في جنب الله أن يثيبك به. ومن كلامهم : يا حنّان ، يا منّان ، والله تعالى يمنّ على عباده لأنه مبتديهم بنعمه. ومن قولهم : لا تتزوّج حنّانة ولا منّانة ، أي من تمنّ عليك بمالها (١).

قوله : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا)(٢) الآية. فالمنّة منهم بقولهم : آمنّا بك وصدّقناك ، وقد كفر غيرنا وكذّبك. ومنّة الله عليهم بالفعل وهو أن هداهم للإيمان بعد أن كانوا ضلّالا.

ومن : مخففة تكون شرطية فتجزم فعلين شرطا وجزما كقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً)(٣). واستفهاما كقوله : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ)(٤) وهو استفهام لفظا نفي معنى ، ولذلك وقع معه الاستثناء المفرغ وموصوله ، كقوله تعالى : (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)(٥). ونكرة موصوفة وهي تقع تامة أي لا موصولة ولا موصوفة. وزعم الكسائي أنها تزاد ، مستدلا بقول عنترة (٦) : [من الكامل]

يا شاة ما قنص لمن حلّت له

حرمت عليّ وليتها لم تحرم

ولا دلالة ، إذ المعنى يا شاة شخص ذي قنص ؛ فهي نكرة موصوفة.

ومن : بكسر الميم حرف جر ، ولها معان كثيرة : ابتداء الغاية في المكان نحو : (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)(٧). وفي الزمان غلب أي ومنه قوله : (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ)(٨) وهو مؤوّل عند أصحابنا. وتكون للتبعيض ولبيان الجنس ، وتحريره في غير

__________________

(١) والحنّانة : التي كان لها زوج قبله فهي تذكره بالتحزّن والأنين. انظر في النهاية : ٤ / ٣٦٦.

(٢) ١٧ / الحجرات : ٤٩.

(٣) ٦٨ / الفرقان : ٢٥.

(٤) ١٣٥ / آل عمران : ٣.

(٥) ١٤ / المعارج : ٧٠.

(٦) الديوان : ١٥٢. الشاة : كناية عن المرأة ، وأراد : يا شاة قنص ، أي صيد.

(٧) ١ / الإسراء : ١٧.

(٨) ١٠٨ / التوبة : ٩.

١٣٣

هذا ، ومزيده بلا شرط أو شرطين أو بشرط. وتكون فعل أمر من : مان يمين أي كذب ، كقوله (١) : [من الوافر]

وألفى قولها كذبا ومينا

فالأمر منه من ، كبع من باع. ولا يقال إنها متردّدة بين الحرفية والفعلية كما قيل ذلك في عدا وخلا لما بيّناه في كتبنا النحوية.

ومن ـ بضمّ الميم ـ للقسم ، قيل : هي بقيّة أيمن ، فيقال : من الله لأفعلنّ كذا.

م ن ي :

قوله تعالى : (مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى)(٢) المنيّ : الماء الدافق ، سمّي منيا لأنه يقدّر منه الحيوان. وأصل المنيّ : القدر ؛ يقال : منى لك الماني ، أي قدّر لك المقدّر ، وأنشد قول الشاعر (٣) : [من البسيط]

لا تأمننّ وإن أمسيت في حرم

حتى تلاقي ما يمني لك الماني

ومنه المنا الذي يوزن به لأنّه مقدّر بكيل محصور.

قوله : (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى)(٤) أي تقدّر بالعزّة الإلهية والحكمة الرّبانية ، أي تحار العقول في كيفية ذلك ما لم تكن منه كالعظم والشّعر. ومنه المنيّة أيضا لأنّها أجل مقدّر لكلّ حيّ غير المقدّر لذلك جلّ وعزّ ، وجمعها المنايا ، والأصل المنائي. وقد نطق به الشاعر في قوله : [من الطويل]

__________________

(١) عجز لعدي بن زيد (الشعر والشعرء : ١٥٢ ، الأغاني : ١٤ / ٧٣ ، اللسان مادة ـ مين. وصدره : وله رواية :

فقدّدت الأديم لراهشيه

(٢) ٣٧ / القيامة : ٧٥.

(٣) أنشده رجل في حضرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم): «لو أدرك هذا الإسلام» (والشاهد في النهاية : ٤ / ٣٦٨ ، واللسان ـ مادة مني).

(٤) ٤٦ / النجم : ٥٣.

١٣٤

فما برحت أقدامنا في مكاننا

بليلتنا حتى أديروا المنائيا

ومنه التمنّي ـ أيضا ـ لأنه تقدير شيء في النفس وتصويره فيها. وذلك قد يكون عن ظنّ وتخمين. وقد يكون عن رويّة وبناء على الأصل. لكن لمّا كان أكثره عن تخمين صار المكذب له أملك ، فلا جرم كان غالب التمنّي كذبا وتصوّر ما لا حقيقة له. وعليه قوله تعالى : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى)(١). ولذلك وقع في المستحيلات عكس الترجّي فلا يقع إلا في الممكن ، يقال : ليت شبابي يعود ، وقال الشاعر (٢) : [من الكامل]

ليت الشباب هو الرجيع إلى الفتى

والشيب كان هو البديء الأول

وقال عروة للحجاج «يابن المتمنيّة» يشير إلى أنّ أمّه هي القائلة (٣) : [من البسيط]

هل من سبيل إلى خمر فأشربها

أم من سبيل إلى نصر بن حجاج؟

وكان نصر جميلا وسيما تفتتن به النساء ، فلما سمع عمر شعرها نفاه إلى البصرة. واسم هذه المرأة فريعة بنت همّام ، وكانت قبل ذلك تحت المغيرة.

والأمنية : الصورة الحاصلة في النّفس من تمنّي الشيء ، وجمعها أمانيّ ، وعليه قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ)(٤) أي تمنيا على الله كقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً)(٥)(نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)(٦)(لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً)(٧).

قال مجاهد : إلا كذبا ، وقال غيره : إلا تلاوة بلا معرفة معنى تجري عند صاحبها مجرى أمنيّة مبنية على التّخمين. قيل : ولمّا كان الكذب تصوّر ما لا حقيقة له ، وإبرازه باللفظ فقط ، صار

__________________

(١) ٢٤ / النجم : ٥٣.

(٢) البيت من شواهد الفراء (معاني القرآن : ١ / ٤١٠ و ٢ / ٣٥٢).

(٣) عروة هو عروة بن الزبير قال للحجاج : إن شئت أخبرتك من لا أمّ له ، يابن المتمنّية. وخاطبه كذلك عبد الملك ، وأراد بالمتمنّية أم الحجاج التي اسمها الفريعة. وورد البيت في النهاية : ٤ / ٦٧ مع الخبر. ونصر من بني سليم.

(٤) ٧٨ / البقرة : ٢.

(٥) ٨٠ / البقرة : ٢.

(٦) ١٨ / المائدة : ٥.

(٧) ٩٤ / البقرة : ٢.

١٣٥

التمنيّ كالمبدأ للكذب ، فعبّر به عنه ، وعليه فسّر مجاهد (إِلَّا أَمانِيَ) إلا كذبا ، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه : «ما تعنيّت ولا تمنّيت منذ أسلمت» (١). وقوله تعالى : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)(٢). التمنّي هو التلاوة ، قال الشاعر يرثي عثمان (٣) : [من الطويل]

تمنّى كتاب الله أول ليلة

وآخرها لاقى حمام المقادر

وقد ذكروا في التفسير والأسباب عند هذه الآية ما لا ينبغي ولا يجوز اعتقاده ، وقال الراغب (٤) : قد تقدّم أنّ التمنّي كما يكون في تخمين وظنّ فقد يكون عن رويّة وبناء على أصل. ولما كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما يبادر إلى ما نزل به الروح الأمين على قلبه حتى قيل له : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)(٥) سمّى تلاوته على ذلك تمنّيا ، ونبّه أنّ للشيطان تسلّطا على مثله في أمنيّته ، وذلك من حيث بيّن أنّ العجلة من الشيطان ، انتهى. قوله : إنّ للشيطان تسلّطا .. إلى آخره كلام صعب لا ينبغي ولا يجوز قوله ، ولذلك ذكرته منبهة عليه. وأحسن ما قيل في ذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا تلي قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى)(٦) قال : «الشياطين تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهن لترجى» (٧). فلما سمع قومه ذلك من الشيطان ، وسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آخرها سجدوا معه ظنّا منهم أنه هو القائل لذلك. ولا غرو في ذلك فلله تعالى أن يمتحن عباده بضروب من المحن. وأمّا ما يروى أنّه هو عليه الصلاة والسّلام القائل لذلك ، من وسوسة على سبيل الغلط فحاشا لله ، بل الشيطان هو القائل المسمع للناس. فلما عرف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك أكذبه وعرّف الناس أنّ الشيطان هو الذي قال ذلك فتنة واختبارا ، ليزداد المؤمنون إيمانا والمنافقون شكا وامتحانا.

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٣٦٧.

(٢) ٥٢ / الحج : ٢٢.

(٣) البيت مذكور في النهاية : ٤ / ٣٦٧ ، واللسان ـ مادة مني ، وفيه : أول ليله .. وآخره.

(٤) المفردات : ٤٧٦.

(٥) ١١٤ / طه : ٢٠.

(٦) ١٩ و ٢٠ / النجم : ٥٣.

(٧) النهاية : ٣ / ٣٦٤ ، وفيها أن الغرانيق هاهنا الأصنام ، وهي في الأصل الذكور من طير الماء.

١٣٦

قوله : (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ)(١) يعني : لأجعلنّ لهم أمنيّة بما أشهّبهم فيه من أمور الدنيا. ووزن أمنيّة أفعولة ، وأصلها : أمنوية كأعجوبة ، فأدغمت بعد القلب كمرمى. وقيل : إنما قيل للقارىء متمنيا ، وللقراءة تمنّيا ، لأنه إذا مرّ بآية رحمة تمنّى دخولها ، وبآية عذاب تمنّى دفعه. وقال بعضهم : كأنّ المنى مقلوب من المين ، بمعنى أنّ التمني يكون كذبا كما تقدّم تقريره. والمين : الكذب ، فيقال : منى يمني ، ومان يمين ، أي كذب. والتحقيق ما قدّمناه.

فصل الميم والهاء

م ه د :

قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً)(٢) المهاد والمهد : المكان الموطّأ ، من مهّدت الأرض ، ومهدتها ، أي وطّأتها ، وقرىء في طه : (مَهْداً) و (مِهاداً)(٣) فالمهاد كالفراش ، والمهد كالفرش ، وزنا ومعنى.

قوله : (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً)(٤) أي وطّأت له على سبيل الاستدراج لا الإكرام ، (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً)(٥). وقد اغترّ كثير من معاصرينا بما منّ الله عليهم كأنّهم صمّوا عن هذه الآيات.

قوله : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ)(٦) أي في حال طفوليّتك ، فليس المهد مقصودا بالظرفية الحقيقية ، ولذلك عطف على محلّه حالا أخرى ، حسبما بينّاه في كتبنا الإعرابية. وامتهد السّنام : تسوّى فصار لحمها كمهاد ومهد.

قوله : (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ)(٧) أي يوطئون ، كنّى بذلك عن الاستعداد ليوم اللقاء.

__________________

(١) ١١٩ / النساء : ٤.

(٢) ٦ / النبأ : ٧٨.

(٣) ٥٣ / طه : ٢٠.

(٤) ١٤ / المدثر : ٧٤.

(٥) ١٧٨ / آل عمران : ٣.

(٦) ٢٩ / مريم : ١٩.

(٧) ٤٤ / الروم : ٣٠.

١٣٧

(فَبِئْسَ الْمِهادُ)(١) أي الفراش. وذكره بلفظ المهاد تهكّما بهم أو على العكس من الكلام كقوله : [من الوافر]

تحية بينهم ضرب وجيع

م ه ل :

قوله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ)(٢) أي ارفق بهم وأخّر أمرهم ، وهو وعيد كمعنى قوله تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ)(٣) الآية ، وقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ)(٤) ، والإمهال : الرفق ، ومنه المهلة ، وهي الانتظار والتأخير.

قوله : (بِماءٍ كَالْمُهْلِ)(٥) قيل : هو ما أذيب من الجواهر المعدنية كالنحاس والرصاص ونحو ذلك. وقيل : هو درديّ الزيت. وفي التفسير : يبتلون بعطش فيستغيثون فيؤتون بماء كالمهل ، فإذا قرّبه إلى فيه سقطت فروة وجهه. نسأل الله العظيم الإجارة من نار الجحيم. ودلّت الآية الأخرى على أنهم يشربونه. وهو قوله تعالى : (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ)(٦) فقد حصل في بطون القوم ، ويا بئس ما حصل.

م ه م :

قوله تعالى : (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ)(٧) مهما : اسم شرط يجزم فعلين أولهما شرط والثاني خبر ، كأنّ المعنى إئتنا إن أتيتنا بآية من الآيات فما نحن لك بمؤمنين. واختلف النحاة هل هي بسيطة أم مركبة ، والقائلون بتركيبها اختلفوا ؛ فقال بعضهم : مركبة من مه : اسم فعل ، وما الشرطية ، فلما ركبتا هجر معنى اسم الفعل (٨). وقال آخرون : مركبة من ما

__________________

(١) ٥٦ / ص : ٣٨.

(٢) ١٧ / الطارق : ٨٦.

(٣) ٣ / الحجر : ١٥.

(٤) ٤٠ / فصلت : ٤١.

(٥) ٢٩ / الكهف : ١٨.

(٦) ٤٥ / الدخان : ٤٥.

(٧) ١٣٢ / الأعراف : ٧.

(٨) ويرى ابن هشام أنها اسم لعود الضمير إليها. وزعم السهيلي أنها تأتي حرفا (مغني اللبيب : ٣٣٠).

١٣٨

الشرطية مكررة تأكيدا ، فاستثقل اللفظ ، فأبدلت الهاء من ألف ما الأولى. وتحقيقه في غير هذا. وقد تزاد استفهاما (١). قال الشاعر (٢) : [من السريع]

مهما لي اليلة مهما ليه

أودى بنعليّ وسرباليه

م ه ن :

قوله تعالى : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ)(٣) أي ضعيف حقير. يشير إلى النّطفة التي هي أول خلقه ، وإلى ذلك نحا أمير المؤمنين بقوله رضي الله عنه : «ما لابن آدم والفخر! وإنما أوله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وهو فيما ذلك يحمل العذرة» (٤). ونظمه بعضهم فقال : [من السريع]

ما بال من أوّله نطفة

وجيفة آخره يفخر؟

أصبح لا يملك تقديم ما

يرجو ولا يؤخر ما يحذر

وقوله تعالى حكاية عن فرعون : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ)(٥) أي ضعيف قليل ذليل ، فقوّاه ربّه وكثّره وأعزّه بتسع آيات إحداها عصا من العصيّ صارت حية أحد لحييها (٦) تحت قصره والآخر على أعلى شرفاته. والمهانة : الذلة والقلة.

قوله : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ)(٧) أي ضعيف الرأي والتمييز ، قال الفراء : هو ها هنا الفاجر ، وغلّب في العرف على الكسلان الكلّ على الناس (٨) ، يقال : مهن يمهن مهانة فهو مهين. وامتهنته : استخدمته. المهنة : الخدمة ، وفي حديث سلمان (٩) : «إني أكره أن

__________________

(١) وهو رأي ابن مالك.

(٢) البيت من شواهد المغني : ٣٣٢ من غير عزو ، بينما عزاه ابن يعيش إلى عمرو بن ملقط (شرح المفصل : ٧ / ٤٤) والبيت من قطعة رواها أبو زيد في نوادره.

(٣) ٢٠ / المرسلات : ٧٧.

(٤) سجع الحمام : ٣٦٧ ، وليس فيه : مذرة .. وقذرة.

(٥) ٥٢ / الزخرف : ٤٣.

(٦) اللحي : منبت اللحية من الإنسان.

(٧) ١٠ / القلم : ٦٨.

(٨) الجملة غير واضحة ، وصوابها : والهمّاز : الذي يهمز الناس (معاني القرآن : ٣ / ١٧٣).

(٩) النهاية : ٤ / ٢٩٦.

١٣٩

أجمع على ماهن مهنتين» ، المهنة ـ بفتح الميم ـ والفقهاء يكسرونها فيقولون : ما يبدو في المهنة ، وقد نصّ الهرويّ على أن خفض الميم خطأ ، قاله شمر عن أشياخه. يقال : مهنت القوم أمهنهم وأمهنهم ، وامتهنوني ، أي ابتذلوني.

فصل الميم والواو

م و ت :

قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ)(١) أي كنتم نطفا في أصلاب الآباء فأحياكم بالخلق والإيجاد ، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ)(٢) الموت المتعارف (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) من القبور ، وقيل : كنتم أمواتا أي نطفا / في الأرحام فأحياكم فيها ، والظاهر الأول ، وعليه قوله : (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)(٣) فالإحياء والإماتة مرتان ، وهل يستدعي الموت سبق حياة؟ ظاهر كلام أكثرهم على أنه حقيقة في ذلك ، واستعماله في غيره مجاز. فقوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) مجاز ، وقوله : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) حقيقة ، قال بعضهم (٤) : الموت أنواع بحسب أنواع الحياة ؛ الأول : ما هو بإزاء القوة النامية الموجودة في الإنسان والحيوان والنبات ، نحو قوله : (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً)(٥) والثاني : زوال القوة الحاسّة ، كقوله تعالى : (يُحْيِي وَيُمِيتُ)(٦) وقوله : (أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا)(٧) ، والثالث : زوال القوة العاقلة وهي الجهالة ، وعليه قوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)(٨). وإياه قصد بقوله تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى)(٩) ، الرابع : الحزن المكدّر للحياة ، وإياه قصد بقوله تعالى : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ)(١٠) و (ما

__________________

(١) ٢٨ / البقرة : ٢.

(٢) هي وما بعدها تتمة الآية السابقة.

(٣) ١١ / غافر : ٤٠.

(٤) التعريف في المفردات : ٤٧٦.

(٥) ١١ / ق : ٥٠.

(٦) ٢٥٨ / البقرة : ٢.

(٧) ٦٦ / مريم : ١٩.

(٨) ١٢٢ / الأنعام : ٦.

(٩) ٨٠ / النمل : ٢٧.

(١٠) ١٧ / إبراهيم : ١٤.

١٤٠